أساتذة يئنون في صمت .. عزلةٌ ومجهود ضائع بالمناطق النائية

أساتذة يئنون في صمت .. عزلةٌ ومجهود ضائع بالمناطق النائية

 

يشقون طريقهم من وسط المدينة إلى أماكن لا تطالها الأبصار، يعرفون المعنى الحقيقي للعزلة، هم الذين اختاروا مهنة التدريس دربا لحياتهم، غير مدركين ما ينتظرهم من صعاب تجعل مهمتهم النبيلة غاية شبه مستحيلة. اكتشفوا في أنفسهم القدرة على الصبر والتحمل، مجبرين لا مخيرين، هناك في أعالي الجبال، حيث لا مكان إلا للصامدين.. إنهم أساتذة يمارسون مهنتهم تحت قسوة الظروف، وفي ظل غياب أبسط شروط العيش الكريم.

إلى القرية المعزولة

حسن، أستاذ في السلك الابتدائي بإحدى القرى المجاورة لمدينة تطوان، قضى من العمر ثلاثين سنة في هذا الميدان، مقسمة بين مدينة الدار البيضاء وجبال الشمال الوعرة، ولم يتخيل للحظة قبل انتقاله من المدينة الكبرى إلى القرية المعزولة أن الفرق سيكون كبيرا، ليصدم بواقع الحال وقسوة الظروف. يقول حسن: « عندما كان من سبقونا في ميدان التعليم يحكون لنا حجم المعاناة لم نكن نصدق، كنا نضحك ضانين أن الأمر يتعلق بطرائف ونوادر، إلى أن وجدنا أنفسنا أمام واقع غريب ».

تشتد العزلة حينما تمطر، ونادرا ما تتوفر القرى على طرق معبدة تسمح بولوج المراكز الحيوية. يقول حسن: « لا نعلم متى تصل المؤونة التي يحضرها سكان القرية من السوق.. تصل في وقتها أحيانا، ويطول الانتظار أحايين أخرى ».

أما إيمان، التي اعتادت العيش في رفاه المدينة، فكان الأمر أشبه بـ »الكابوس » بالنسبة لها، وهي التي عينت منذ الوهلة الأولى بإحدى القرى المجاورة لمدينة شفشاون، فعرفت المعنى الحقيقي للعزلة. « عندما تمرض هنا لا خيار أمامك إلا أن تئن في صمت. أن تلج المستشفى أمر مستحيل حين تمطر »، تحكي الشابة قصة معاناتها، مضيفة: « أما الأمن فهو غائب.. كانوا يطرقون الباب ليلا، ويقتحمون منازلنا في غيابنا ويبعثرون كل شيء ».

حالة حسن.أ، أستاذ السلك الابتدائي بمنطقة أمغران، الواقعة بإقليم ورزازات، ليست أفضل من الحالتين السابقتين؛ إذ يعاني الأمرين في الولوج. يقول حسن: « إذا كنت محظوظا قد تجد وسيلة نقل تقلك إلى السوق الأسبوعي، هذا إذا كان الجو صحوا.. قد نركب البغال أو نمشي سبعة كيلومترات أحيانا، وقد تقطع الطريق أسبوعا إلى عدة أسابيع ».

ما يزيد الطين بلة بالنسبة إلى هؤلاء هو المزاج المتقلب لتغطية شبكة الهاتف النقال، فهواتفهم متعطشة إلى إشارة تمكنهم من التواصل مع العالم الخارجي، تعد بمثابة شعاع نور يكسر ظلمة العزلة، ينير غرفهم لوهلة ويغيب أياما.

مجهود ضائع

يجد الأساتذة أنفسهم مجبرين على بذل قصارى جهدهم من أجل إيصال المعلومات لتلاميذ غالبا ما يقف مسارهم الدراسي عند الفصل السادس ابتدائي. هو « مجهود ضائع »، حسب مصطفى التاج، أستاذ سابق بمنطقة سوس، ورئيس جمعية الشبيبة المدرسية، « فغالبا ما ينتقل الذكور إلى المدن الكبرى من أجل الاشتغال في التجارة، ويكون مصير الإناث الزواج »، يقول الأستاذ.

الخلل حسب التاج يكمن في « الفقر والأمية اللذين يسودان في المناطق النائية، حيث يغيب الوعي لدى الآباء، الذين يعتبرون أن المدرسة يجب أن تعلم الحساب والقرآن فقط، أما المواد الأخرى فهي مضيعة للوقت ».

الأمر ليس حكرا على منطقة سوس، ففي شمال المغرب، حيث تنشط تجارة القنب الهندي، الانقطاع عن الدراسة أمر عادي. حسن الذي اشتغل بالمنطقة أزيد من عقد من الزمن كان يسمع عبارات كــ »داكشي لي كتشدو نتا فعام كنشدو أنا فشهر من الحشيش، إذن علاش غادي نقري ولدي؟ »، و »واش ماعنكومش العواشر؟ خليو ولادنا يرتاحو شويا ».

إمكانيات محدودة

يسكنون غرفا صغيرة، غير مجهزة، يتقاسمونها مع أساتذة آخرين، إذ لا يكون السكن الإداري متوفرا في جميع الحالات، ومن الأساتذة من وجد نفسه مجبرا على توفير سكن من ماله الخاص. « وجدت نفسي مضطرا إلى المكوث في غرفة قمت باكترائها وإصلاحها من جيبي الخاص، في ظل غياب السكن الإداري.. هي غرفة صغيرة ليس فيها مرحاض أو مطبخ »، يصف حسن حالة سكنه بمنطقة أمغران بورزازات.

وفي ما يخص البنية التحتية للفرعيات بمناطق أخرى متفرقة من المملكة فهي في غالب الأحيان متدهورة. يقول حسن.أ: « لا تحدثني عن المرافق الرياضية ولا عن المرافق الصحية ولا عن الإضاءة، فهذه أشياء غير موجودة هنا ». أما في ما يخص الإصلاحات فيقوم بها حسن.أ من ماله الخاص، وتساعده على ذلك بعض الجمعيات.

لا فرق بين معاناة حسن.أ المشتغل بأمغران وحسن الآخر الذي اشتغل بأشكراز، بمنطقة الشمال، فهذا الأخير يلعب أدوارا متعددة بالإضافة إلى كونه أستاذا، فهو الحارس الذي ينظف والعامل الذي يقوم بالإصلاح. يقول حسن: « أقوم بتنظيف القسم رفقة التلاميذ، واشتريت القفل الذي يحمي بابه من جيبي الخاص؛ أما الآباء والمحسنون فيمدونني بالإسمنت الذي أستعمله من أجل إصلاح ما يمكن إصلاحه ».

أقسام متعددة المستويات

بالمناطق النائية، حيث الخصاص في الإمكانيات المادية والبشرية، تنتشر الأقسام متعددة المستويات؛ وما يزيد من حدة الوضع هو أن الأساتذة لم يتلقوا تكوينا يسمح لهم بالتعامل مع مثل هذه الحالات. يعتبر حسن الأمر « محطما لجودة التعليم »، وهو الذي يدرس جميع المواد لثلاثة مستويات باللغتين العربية والفرنسية.

يؤكد مصطفى التاج أن هناك حالات يدرس فيها أستاذ واحد ستة مستويات مختلفة، بالإضافة إلى كونه مضطرا إلى تدريس ما يزيد عن 60 تلميذا تحت سقف واحد. مصطفى، الذي غادر ميدان التعليم، عبر عن استيائه من الوضع بهذا القطاع قائلا: « لقد غادرت التعليم نظرا لكل هذه المشاكل التي تحطم معنويات الأستاذ، وتجعله غير قادر على العطاء ».

عن موقع هسبريس